فصل: فصــل في ذكر خلاف السلف في التفسير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


وَقَالَ الشيخ الإمام العَلامـــة، القدوة العارف الفقيه، الحافظ الزاهد العابد، السالك الناسك، مفتى الفرق ركن الشريعة، عالم العصر،فريد الدهر، ترجمان القرآن، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني - تغمده اللّه برحمته‏:‏

 فصــل

في أقسام القرآن

وهو ـ سبحانه ـ يقسم بأمور على أمور، وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته، أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته‏.‏

فالقسم إما على جملة خبرية، وهو الغالب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏23‏]‏‏.‏

وإما على جملة طلبية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏92،93‏]‏ مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به محض القسم‏.‏ والمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلابد أن يكون مما يحسن فيه ذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها‏.‏

فأما الأمور المشهودة الظاهرة كالشمس والقمر، والليل والنهار، والسماء والأرض، فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها، وما أقسم عليه الرب ـ عز وجل ـ فهو من آياته، فيجوز أن يكون مقسمًا به ولا ينعكس‏.‏

وهو - سبحانه - يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب،وتارة يحذفه كما يحذف جواب لو كثيرًا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏31‏]‏، ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏50‏]‏، ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏51‏]‏، ‏{‏وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏27‏]‏، ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏30‏]‏‏.‏

ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام؛ لأن المراد‏:‏ أنك لو رأيته لرأيت هولاً عظيمًا، فليس في ذكر الجواب زيادة على ما دل‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏سقط بالأصل‏]‏ المحرم وهو أيضًا تنبيه‏.‏ فإذا أقسم به وفيه الحلال، فإذا كان فيه الحرام كان أولى بالتعظيم، وكذلك إذا أريد الحلول فإنه هو السلبي، فالمعنى واحد‏.‏

وقد أقسم بـ ‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏1‏]‏ و ‏{‏الْبَلَدِ الْأَمِينِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏3‏]‏‏.‏ والجواب مذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏4‏]‏، وهو مكابدة أمر الدنيا والآخرة‏.‏ وهذه المكابدة تقتضي قوة صاحبها، وكثرة تصرفه واحتياله، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5-7‏]‏ فهذا الإنسان من جنس أولئك الأمم، ومن جنس الذي قال‏:‏ ‏{‏مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏28، 29‏]‏ له قوة يكابد بها الأمور، وكُلٍّ أهلكه، أفيظن مع هذا أنه لن يقدر عليه أحد فيجازيه بأعماله‏؟‏ ويحسب أن ما أهلكه من المال لم يره أحد، فيعلم ما فعل‏؟‏

والقدرة والعلم بهما يحصل الجزاء، بل بهما يحصل كل شىء، وإخباره ـ تعالى ـ بأنه قادر وأنه عالم يتضمن الوعيد والتهديد؛ فإنه إذا كان قادرًا أمكن الجزاء، وإذا كان عالمًا أمكن الجزاء، فبالعدل يقدر ما عمل، ومن لم يكن قادرًا عالمًا لم يمكنه الجزاء؛ فإن العاجز عن الشخص لا يمكنه جزاؤه، والذي له قدرة لكن لا يرى ما فعل إن جازاه بلا علم كان ظالمًا معتديًا، فلابد له من العلم بما فعل‏.‏

ولهذا كان الحاكم يحتاج إلى الشهود، والملوك يحتاجون إلى أهل الديوان يخبرونهم بمقادير الأموال وغيرها؛ ليكون عملهم بعلم‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ ذكر أنه خلق الإنسان في كبد، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏؟‏ و‏[‏لن‏]‏ لنفي المستقبل، يقول‏:‏ أيحسب أن لن يقدر عليه في المستقبل أحد‏؟‏ ولهذا كان ذاك الخائف من ربه، الذي أمر أهله بإحراقه وذرايته، يعلم أن الجزاء متعلق بالقدرة، فقال‏:‏ ‏(‏لئن قَدَر اللّه عليّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين‏)‏‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ يهدد بالقدرة لكون المقدور يقترن بها، كما يهدد بالعلم لكون الجزاء يقع معه، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت‏:‏‏(‏أعوذ بوجهك، أعوذ بوجهك‏)‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏65‏]‏ فقال‏:‏ ‏(‏هاتان أهون‏)‏ وذلك لأنه تكلم في ذكر القدرة ونوع المقدور، كما يقول القائل‏:‏ أين تهرب مني ‏؟‏ أنا أقدر أن أمسكك‏.‏

وكذلك في العلم بالرؤية، كقوله هنا‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏7‏]‏،وقوله تعالى ـ في الذي ينهي عبدًا إذا صلى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏14‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏105‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏‏[‏الزخرف‏:‏ 80‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏52، 53‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏ فذكر رؤيته الأعمال وعلمه بها وإحصائه لها يتضمن الوعيد بالجزاء عليها، كما يقول القائل‏:‏ قد علمت ما فعلت، وقد جاءتنى أخبارك كلها وأمثال ذلك، فليس المراد الإخبار بقدرة مجردة، وعلم مجرد؛ لكن بقدرة وعلم يقترن بهما الجزاء؛ إذ كان مع حصول العلم والقدرة يمكن الجزاء، ويبقى موقوفًا على مشيئة المجازي، لا يحتاج معه إلى شيء حينئذ، فيجب طلب النجاة بالاستغفار والتوبة إليه، وعمل الحسنات التي تمحو السيئات‏.‏

 فصــل

وهو ـ سبحانه وتعالى ـ لما أقسم بـ ‏[‏الصافات‏]‏ و‏[‏الذاريات‏]‏ و ‏[‏المرسلات‏]‏ ذكر المقسم عليه‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏5، 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏7‏]‏‏.‏ ولم يذكره في النازعات؛ فإن الصافات هي الملائكة،وهو لم يقسم على وجودها، كما لم يقسم على وجود نفسه؛ إذ كانت الأمم معترفة بالصافات، وكانت معرفته ظاهرة عندهم لا يحتاج إلى إقسام، بخلاف التوحيد، فإنه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وكذلك الملائكة يقر بها عامة الأمم، كما ذكر اللّه عن قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، مع شركهم وتكذيبهم بالرسل، أنهم كانوا يعرفون الملائكة‏.‏ قال قوم نوح‏:‏ ‏{‏مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏24‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13، 14‏]‏، وقال فرعون‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏52، 53‏]‏‏.‏

وكذلك مشركو العرب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏7‏]‏، وقال تعالى عن الأمم مطلقًا‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولا‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏94، 95‏]‏‏.‏

فكانت هذه الأمم المكذبة للرسل المشركة بالرب مقرة باللّه وبملائكته، فكيف بمن سواهم‏؟‏ فعلم أن الإقرار بالرب وملائكته معروف عند عامة الأمم؛ فلهذا لم يقسم عليه وإنما أقسم على التوحيد؛ لأن أكثرهم مشركون‏.‏

وكذلك ‏[‏الذاريات‏]‏ و‏[‏الحاملات‏]‏ و‏[‏الجاريات‏]‏، هي أمور مشهودة للناس، و‏[‏المقسمات أمرًا‏]‏ هم الملائكة، فلم يكن فيما أقسم به ما أقسم عليه، فذكر المقسم عليه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏5، 6‏]‏‏.‏

و ‏[‏المرسلات‏]‏ سواء كانت هي الملائكة النازلة بالوحي والمقسم عليه الجزاء في الآخرة، أو الرياح، أو هذا وهذا، فهي معلومة أيضًا‏.‏

وأما ‏{‏النازعات غرقا‏}‏ فهي الملائكة القابضة للأرواح،وهذا يتضمن الجزاء،وهو من أعظم المقسم عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61، 62‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏سقط بالأصل‏]‏ هو، ولا يعين على عبادته إلا هو، وهذا يقين يعطي الاستعانة والتوكل، وهو يقين بالقدر الذي لم يقع؛ فإن الاستعانة والتوكل إنما يتعلق بالمستقبل‏.‏

فأما ما وقع فإنما فيه الصبر والتسليم والرضى، كما في حديث عمار بن ياسر ـ رضي اللّه عنه ـ مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أسألك الرضا بعد القضاء‏)‏، وقول‏:‏‏(‏لا حول ولا قوة إلا باللّه‏)‏ يوجب الإعانة؛ ولهذا سنها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قال المؤذن‏:‏ ‏(‏حي على الصلاة‏.‏ فيقول المجيب‏:‏ لا حول ولا قوة إلا باللّه، فإذا قال‏:‏ حي على الفلاح‏.‏ قال المجيب‏:‏ لا حول ولا قوة إلا باللّه‏)‏‏.‏

وقال المؤمن لصاحبه‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏39‏]‏، ولهذا يؤمر بهذا من يخاف العين على شىء‏.‏ فقوله‏:‏ ما شاء اللّه، تقديره‏:‏ ما شاء اللّه كان، فلا يأمن، بل يؤمن بالقدر، ويقول‏:‏ لا قوة إلا باللّه‏.‏ وفي حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي اللّه عنه ـ المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏هي كنز من كنوز الجنة‏)‏، و‏[‏الكنز‏]‏ مال مجتمع لا يحتاج إلى جمع؛ وذلك أنها تتضمن التوكل والافتقار إلى الله تعالى‏.‏

ومعلوم أنه لا يكون شىء إلا بمشيئة اللّه وقدرته، وأن الخلق ليس منهم شيء إلا ما أحدثه اللّه فيهم، فإذا انقطع طلب القلب للمعونة منهم وطلبها من اللّه فقد طلبها من خالقها الذي لا يأتي بها إلا هو، قال تعالى‏:‏‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِه‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏2‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏107‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏71‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏‏.‏

وقال صاحب يس‏:‏ ‏{‏أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏23، 24‏]‏؛ ولهذا يأمر اللّه بالتوكل عليه وحده في غير موضع‏.‏ وفي الأثر‏:‏ من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه أوثق منه بما في يده‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏58‏]‏‏.‏

واللّه تعالى أمر بعبادته والتوكل عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، وقال موسى‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏‏.‏

وقال شعيب‏:‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏88‏]‏، وقال المؤمنون‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏،وَقال تعالى‏:‏ {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏8، 9‏]‏ وَقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرً‏}‏‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏‏.‏

فافترق الناس هنا أربعة أصناف‏:‏

صنف لا يعبدونه ولا يتوكلون عليه، وهم شرار الخلق‏.‏

وصنف يقصدون عبادته بفعل ما أمر، وترك ما حظر،لكن لم يحققوا التوكل والاستعانة، فيعجزون عن كثير مما يطلبونه، ويجزعون في كثير من المصائب‏.‏

ثم من هؤلاء من يكذب بالقدر، ويجعل نفسه هو المبدع لأفعاله، فهؤلاء في الحقيقة لا يستعينونه ولا يطلبون منه صلاح قلوبهم، ولا تقويمها ولا هدايتها، وهؤلاء مخذولون كما هم عند الأمة كذلك، وقوم يؤمنون بالقدر قولاً واعتقادًا، لكن لم تتصف به قلوبهم علمًا وعملاً، كما اتصفت بقصد الطهارة والصلاة، فهم أيضًا ضعفاء عاجزون‏.‏

وصنف نظر إلى جانب القدرة والمشيئة،وأن اللّه تعالى هو المعطي والمانع، والخافض والرافع، فغلب عليهم التوجه إليه من هذه الجهة والاستعانة به، والافتقار إليه لطلب ما يريدونه، فهؤلاء يحصل لأحدهم نوع سلطان وقدرة ظاهرة أو باطنة وقهر لعدوه؛ بل قتل له ونيل لأغراضه، لكن لا عاقبة لهم؛ فإن العاقبة للتقوى، بل آخرتهم آخرة ردية‏.‏

وليس الكلام في الكفار والظلمة المعرضين عن اللّه،فإن هؤلاء دخلوا في القسم الأول الذين لا عبادة لهم ولا استعانة،ولكن الكلام في قوم عندهم توجه إلى اللّه وتأله، ونوع من الخشية والذكر والزهد، لكن يغلب عليهم التوجه بإرادة أحدهم وذوقه ووجده، وما يستحليه ويستحبه، لا بالأمر الشرعي وهم أصناف‏:‏

منهم المعرض عن التزام العبادات الشرعية، مع ما يحصل له من الشياطين من كشف له أو تأثير، وهؤلاء كثير منهم يموت على غير الإسلام‏.‏

ومنهم من يقوم بالعبادات الشرعية الظاهرة كالصلاة، والصيام، والحج، وترك المحرمات، لكن في أعمال القلوب لا يلتزم الأمر الشرعي؛ بل يسعى لما يحبه ويريده، واللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏20‏]‏،وهو ـ سبحانه ـ يعطي السلطان والمال للبر والفاجر، فقد يعطي أحد هؤلاء تصرفًا؛ إما بقهر عدوه وإما بنصر وليه، كما تعطى الملوك، وقد يعطى نوعًا من المكاشفة؛ إما بإخبار بعض الجن له، وقد يعرف أنه من الجن، وقد لا يعرف، وإما بغير ذلك‏.‏

وقد يقول الواحد من هؤلاء‏:‏ أنا آخذ من اللّه وغيري يأخذ من محمد صلى الله عليه وسلم، فيرى بحاله في ذاك وتفرده أن ما أوتيه من التصرف والمكاشفة، يحصل له بغير طريق محمد صلى الله عليه وسلم وهو صادق في ذلك، لكن هذه في الحقيقة وبال عليه؛ فإن من تصرف بغير أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ ما لم يبحه له الرسول فولى وعـزل، وأعطى ومنـع بغير أمـر الرسول، وقتل وضرب بغير أمره، وأكرم وأهان بغير أمره، وجاءه خطاب في باطنه بالأمر والنهي، فاعتقد أن الّله أمره ونهاه من غير واسطة الرسول، كانت حالته هذه كلها من الشيطان، وكان الشيطان هو الذي يأمره وينهاه، فيأمره فيتصرف، وهو يظن أنه يتصرف بأمر اللّه؛ ولعمري هو يتصرف بأمر اللّه الكوني القدري بواسطة أمر الشيطان، كما قال تعالى في السحرة‏:‏‏{‏وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏102‏]‏ كما أن المؤمن يتصرف بأمر اللّه الكوني القدري، لكن بواسطة أمر الرسول المبلغ له عن اللّه عز وجل‏.‏

فالحلال عنده ما أحله اللّه ورسوله، والحرام ما حرمه اللّه ورسوله، والدين ما شرعه اللّه ورسوله؛ بخلاف ذاك فإنه لا يأخذ عن الرسول الأمر والنهي الباطن، ولا ما يفعله ويأمر به، وهذا الضرب كثير في المشايخ أرباب القلوب والأحوال الذين ضعف علمهم بالكتاب والسنة ومتابعة الرسول، وغلب عليهم ما يجده أحدهم في قلبه، وما يؤمر به في باطنه، سواء وافق الرسول أو خالفه‏.‏

ثم تفاوتوا في ذلك بحسب قربهم من الرسول وبعدهم منه، فكثير منهم بعد عنه حتى صار يرى أنه يعاون الكفار على قتال المسلمين، ويرى أن اللّه ـ سبحانه ـ أمره بذلك، ويعتقد أن أهل الصُّفَّة فعلوا ذلك‏.‏

ومنهم من يرى أن الرسول لم يرسل إليه وإلى أشكاله، وإنما أرسل إلى العوام‏.‏

ومنهم من يعتقد أن الرسول كان خاضعًا لأهل الصفة، وكانوا مستغنين عنه، إلى أمثال هذه الأصناف التي كثرت في هذه الأزمنة‏.‏

وهؤلاء كلهم يدعون علم الحقيقة، ويقولون‏:‏ الحقيقة لون والشريعة لون آخر، ويجمعهم شيئان‏:‏ أن لهم تصرفًا وكشفًا خارجًا عما للعامة، وأنهم معرضون عن وزن ذلك بالكتاب والسنة، وتحكيم الرسول في ذلك، فهم بمنزلة الملوك الذين لهم ملك يسوسونه بغير أمر اللّه ورسوله؛ لكن الملوك لا يقول أحدهم‏:‏ إن اللّه أمرني بذلك، ولا إني ولي اللّه، ولا إن لي مادة من اللّه خارجة عن الرسول، ولا إن الرسل لم تبعث إلى مثلي، وإنما الملوك يقصدون أغراضهم ولا يجعلونها دِينًا‏.‏

وهؤلاء يجعلون أغراضهم التي هي من أعظم الظلم والفساد بل والكفر، يجعلون ذلك دينا يدين به أولياء اللّه عندهم؛ لأن هذه الأمور إنما تحصل لهم بنوع من الزهادة والعبادة؛ ولكن ليس هو الزهد والعبادة التي بعث اللّه بها رسوله، بل يشبهه حال أهل الكتاب والمشركين من عباد الهند والنصارى وأمثالهم‏.‏

ولهذا تظهر مشابهتهم لعباد المشركين وأهل الكتاب، حتى إن من رأى عباد الهنود ثم رأى مُولِهي بيت الرفاعي أنكر وجود هؤلاء في ديار الإسلام‏.‏

وقال‏:‏ هؤلاء مثل عباد المشركين من الهند سواء، وأرفع من هؤلاء من يشبه عباد النصارى ورهبانهم في أمور كثيرة خارجة عن شريعة الإسلام، فلما كان فيهم دين مبتدع من جنس دين المشركين، وأهل الكتاب ظنوا ما يظنه أولئك من أن هذا دين صحيح، وأنه دين يقرب إلى اللّه، وأن أهله أولياء اللّه، فإن جميع طوائف العلماء والعباد من جميع أهل الملل يظنون ‏[‏آخر ما وجد من الأصل‏]‏‏.‏

 وقال شيخ الإسلام‏:‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم

رب يسر وأعن برحمتك

الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى اللّه عليه وسلم تسليمًا‏.‏

أما بعد‏:‏ فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل؛ فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغَثِّ والسمين، والباطل الواضح والحق المبين‏.‏

والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود‏.‏

وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل اللّه المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يَخْلَق عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه اللّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏‏[‏طه‏:‏ 123ـ 126‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏ المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏ إبراهيم‏:‏ 1، 2 ‏]‏، وقـال تعـالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏52، 53‏]‏

وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير اللّه تعالى من إملاء الفؤاد، واللّه الهادي إلى سبيل الرشاد‏.‏

 فصــل

يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى‏:‏ ‏{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏44‏]‏ يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ كعثمان بن عفان، وعبد اللّه بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا‏.‏ ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة‏.‏ وقال أنس‏:‏ كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَلَّ في أعيننا‏.‏ وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل‏:‏ ثماني سنين، ذكره مالك‏.‏

وذلك أن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏29‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏82،محمد‏:‏24‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 68‏]‏، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏ وعقل الكلام متضمن لفهمه‏.‏

ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك‏.‏ وأيضًا، فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم ـ كالطب والحساب ـ ولا يستشرحوه، فكيف بكلام اللّه الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم‏؟‏ ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جدًا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم، وكلما كـان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر‏.‏ ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، كما قال مجاهد‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها؛ ولهذا قال الثوري‏:‏ إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به؛ ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما مـن أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ـ ممن صنف في التفسير ـ يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره‏.‏

والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة، كما تلقوا عنهم علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال‏.‏

 فصــل

الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى ـ بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة ـ كما قيل في اسم السيف‏:‏ الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء اللّه الحسنى،وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن،فإن أسماء اللّه كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادًا لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏110‏]‏‏.‏

وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة، وعلى الصفة التي تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة‏.‏ ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر، فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون‏:‏ لا يقال‏:‏ هو حي، ولا ليس بحي، بل ينفون عنه النقيضين؛ فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسمًا هو علم محض كالمضمرات، وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات، فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقًا لغلاة الباطنية في ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك‏.‏

وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته، وعلى ما في الاسم من صفاته، ويدل أيضًا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم، وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، مثل محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب‏.‏ وكذلك أسماء القرآن‏:‏ مثل القرآن، والفرقان، والهدى، والشفاء، والبيان، والكتاب، وأمثال ذلك‏.‏

فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم، وقد يكون الاسم علمًا وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏124‏]‏ ما ذكره‏؟‏ فيقال له‏:‏ هو القرآن مثلا، أو هو ما أنزله من الكتب‏.‏ فإن الذكر مصدر، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول‏.‏ فإذا قيل ذكر اللّه بالمعنى الثاني كان ما يذكر به مثل قول العبد‏:‏ سبحان اللّه، و الحمد للّه،ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر‏.‏ وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وهو كلامه، وهذا هو المراد في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي‏}‏؛ لأنه قال قبل ذلك‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏123‏]‏ وهَداه هو ما أنزله من الذكر، وقال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 125، 126‏]‏‏.‏

والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل، أو هو ذكر العبد له، فسواء قيل‏:‏ ذكرى كتابي أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك، كان المسمى واحدًا‏.‏

وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به، فلابد من قدر زائد على تعيين المسمى، مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن، وقد علم أنه اللّه، لكن مراده ما معنى كونه قدوسًا سلامًا مؤمنًا ونحو ذلك‏.‏

إذا عرف هذا، فالسلف كثيرًا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول‏:‏ أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب‏.‏ والقدوس هو الغفور، والرحيم، أي أن المسمى واحد، لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة‏.‏ ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس، مثال ذلك‏:‏ تفسيرهم للصراط المستقيم‏:‏

فقال بعضهم‏:‏ هو القرآن، أي اتباعه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي رواه الترمذي، ورواه أبو نعيم من طرق متعددة‏:‏ ‏(‏هو حبل اللّه المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم‏)‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ـ في حديث النواس ابن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره ـ‏:‏‏(‏ضرب اللّه مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سُورَان، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو على رأس الصراط‏)‏، قال‏:‏‏(‏فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم اللّه، والداعي على رأس الصراط كتاب اللّه، والداعي فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مؤمن‏)‏، فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ ‏(‏صراط‏)‏ يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال‏:‏ هو السنة والجماعة‏.‏ وقول من قال‏:‏ هو طريق العبودية‏.‏ وقول من قال‏:‏ هو طاعة اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك، فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها‏.‏

الصنف الثاني‏:‏ أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع ـ لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى ‏[‏لفظ الخبز‏]‏ فأرى رغيفًا، وقيل له‏:‏ هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده ـ مثال ذلك‏:‏ ما نقل في قوله‏:‏‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏32‏]‏

فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات، فالمقتصدون هم أصحاب اليمين ‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏10، 11‏]‏

ثم إن كلاً منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل‏:‏ السابق الذي يصلى في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار، ويقول الآخر‏:‏ السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا، والعادل بالبيع‏.‏ والناس في الأموال إما محسن، وإما عادل، وإما ظالم، فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات‏.‏ والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة‏.‏ والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، وأمثال هذه الأقاويل‏.‏

فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره، فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق، والعقل السليم يتفطن للنوع، كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف، فقيل له‏:‏ هذا هو الخبز‏.‏

وقد يجىء كثيرًا من هذا الباب قولهم‏:‏ هذه الآية نزلت في كذا، لاسيما إن كان المذكور شخصًا؛ كأسباب النزول المذكورة في التفسير، كقولهم‏:‏ إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وأن آية اللعان نزلت في عويمر العَجْلاني أو هلال بن أمية، وأن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد اللّه، وأن قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏49‏]‏ نزلت في بني قُرَيْظَة والنَّضِير، وأن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 16‏]‏ نزلت في بَدْر، وأن قوله‏:‏‏{‏شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏106‏]‏ نزلت في قضية تَمِيم الداري وَعديّ بن بَدَّاء، وقول أبي أيوب إن قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏195‏]‏‏:‏ نزلت فينا معشر الأنصار، الحديث‏.‏ ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين‏.‏

فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا‏؟‏ فلم يقل أحد من علماء المسلمين‏:‏ إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال‏:‏ إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ‏.‏

والآية التي لها سبب معين، إن كانت أمرًا ونهيًا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبرًا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته أيضًا‏.‏

ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب؛ ولهذا كان أصح قولي الفقهاء‏:‏ أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف، رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها‏.‏

وقولهم‏:‏ نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول‏:‏ عنى بهذه الآية كذا‏.‏

وقد تنازع العلماء في قول الصاحب ‏[‏أى الصحابى‏]‏‏:‏ نزلت هذه الآية في كذا، هل يجرى مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجرى مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند‏؟‏

فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند‏.‏

وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند‏.‏

وإذا عرف هذا، فقول أحدهم‏:‏ نزلت في كذا، لا ينافى قول الآخر‏:‏ نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال، وإذا ذكر أحدهم لها سببًا نزلت لأجله وذكر الآخر سببًا، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين، مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب‏.‏

وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير، تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه، كالتمثيلات ـ هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف‏.‏

ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين؛ إما لكونه مشتركًا في اللفظ كلفظ ‏{‏قَسْوَرَةٍ‏}‏ الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد، ولفظ ‏{‏عَسْعَسَ‏}‏ الذي يراد به إقبال الليل وإدباره،وإما لكونه متواطئًا في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين، كالضمائر في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏8، 9‏]‏، وكلفظ ‏{‏وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرٌِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏1-3‏]‏ وما أشبه ذلك‏.‏

فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف،و وقد لا يجوز ذلك، فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة،وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه؛ إذ قد جوز ذلك أكثر الفقهاء ـ المالكية، والشافعية، والحنبلية ـ وكثير من أهل الكلام، وإما لكون اللفظ متواطئًا فيكون عامًا، إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني‏.‏

ومن الأقوال الموجودة عنهم ـ ويجعلها بعض الناس اختلافًا ـ أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة؛ فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقَلَّ أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن‏.‏ فإذا قال القائل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏9‏]‏ ‏:‏ إن المور هو الحركة كان تقريبًا؛ إذ المور حركة خفيفة سريعة‏.‏

وكذلك إذا قال‏:‏ الوحي‏:‏ الإعلام، أو قيل‏:‏‏{‏أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏163‏]‏‏:‏ أنزلنا إليك، أو قيل‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏4‏]‏ أي‏:‏ أعلمنا، وأمثال ذلك، فهذا كله تقريب لا تحقيق؛ فإن الوحي هو إعلام سريع خفي، والقضاء إليهم أخص من الإعلام؛ فإن فيه إنزالاً إليهم وإيحاء إليهم‏.‏

والعرب تُضَمِّنُ الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏24‏]‏ أي‏:‏ مع نعاجه و‏{‏مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏14‏]‏ أي‏:‏ مع اللّه ونحو ذلك‏.‏ والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏73‏]‏ ضمن معنى يزيغونك ويصدونك، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏77‏]‏، ضمن معنى نجيناه وخلصناه، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏6‏]‏ ضمن يروى بها، ونظائره كثيرة‏.‏

ومن قال‏:‏ ‏{‏لاريب‏}‏‏:‏ لا شك، فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة، كما قال‏:‏ ‏(‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏)‏، وفي الحديث أنه مر بظبي حاقف ‏[‏أي‏:‏ نائم قد انحنى في نومه‏]‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا يريبه أحد‏)‏، فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة‏.‏ ولفظ ‏[‏الشك‏]‏ وإن قيل‏:‏ إنه يستلزم هذا المعنى، لكن لفظه لا يدل عليه‏.‏

وكذلك إذا قيل‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ‏}‏‏:‏ هذا القرآن، فهذا تقريب؛ لأن المشار إليه وإن كان واحدًا، فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة، ولفظ ‏[‏الكتاب‏]‏ يتضمن من كونه مكتوبًا مضمونًا ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءًا مظهرًا باديًا‏.‏ فهذه الفروق موجودة في القرآن‏.‏ فإذا قال أحدهم‏:‏ ‏{‏أَن تُبْسَلَ‏}‏‏:‏ أي تحبس، وقال الآخر‏:‏ ترتهن، ونحو ذلك، لم يكن من اختلاف التضاد، وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنًا وقد لا يكون، إذ هذا تقريب للمعنى كما تقدم، وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدًا، فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين، ومع هذا فلابد من اختلاف محقق بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الأحكام‏.‏

ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف معلوم بل متواتر عند العامة أو الخاصة، كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونصبها، وتعيين شهر رمضان، والطواف والوقوف، ورمي الجمار، والمواقيت وغير ذلك‏.‏

ثم اختلاف الصحابة في الجد والأخوة وفي المشركة ونحو ذلك، لا يوجب ريبًا في جمهور مسائل الفرائض، بل ما يحتاج إليه عامة الناس هو عمود النسب من الآباء والأبناء، والكلالة من الأخوة والأخوات، ومن نسائهم كالأزواج؛ فإن اللّه أنزل في الفرائض ثلاث آيات مفصلة، ذكر في الأولى الأصول والفروع، وذكر في الثانية الحاشية التي ترث بالفرض كالزوجين وولد الأم، وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصيب وهم الأخوة لأبوين أو لأب، واجتماع الجد والأخوة نادر؛ ولهذا لم يقع في الإسلام إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل أو لذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون للغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح، فالمقصود هنا التعريف بجمل الأمر دون تفاصيله‏.‏